بات الإخفاق في العثور حتى الآن على الأسلحة الكيميائية أو النووية أو البيولوجية في العراق يحتل مركزَ الاهتمام في واشنطن، ولذلك الأمر سبب وجيه إذ أن لانهيار المعلومات الاستخباراتية و/أو سوء استخدامها قبل الحرب انعكاسات ومقتضيات كبيرة استراتيجية وسياسية، على الرئيس الأميركي وعلى الولايات المتحدة الأميركية. غير أن هذه النتائج تتقزم بفعل أهمية النجاح أو الإخفاق في عملية إعادة إعمار العراق. ويدرك كبار مسؤولي الإدارة الأميركية إلى حد كبير ما يتعرض الآن للخطر في نطاق النتائج الممكنة، إذ أن سيناريو الحالة الأسوأ الذي يفكرون فيه يقتضي احتمال قيام محاولة لفرض ثيوقراطية إسلامية متشددة أو اندلاع حرب أهلية، وهما أمران مترابطان باعتبار أن الأمر الأول سيؤدي على الأرجح إلى الأمر الثاني.
ولا يرى المسؤولون الأميركيون المعنيون أن هذه النتائج مقدّرة ومحتومة، لا بل إنهم لا يرون حتى أن من المحتمل تحققها. غير أنهم يعترفون بأن قدرة الولايات المتحدة على الإملاء وهي المحدودة دوماً، آخذة الآن في التضاؤل بسرعة كبيرة، مهما تكن ماهية الخطة التي يتم الاتفاق عليها بشأن نقل السلطة والسيادة إلى العراقيين. وقد قال أحد أولئك المسؤولين: سوف نقوم بإجراء الكثير من المفاوضات لفترة زمنية طويلة... وإذا لم يعجبكم ذلك، فقد دخلنا إذاً في المكان الخطأ.
ويأتي أول مصدر للخطر من عملية التناوب الهائلة الجارية الآن بين قطع القوات الأميركية. وقد حقق جنود وضباط فرقة المشاة الأميركية الرابعة والفرقة 101 المجوقلة وغيرهما أداءً بطولياً، ليس فقط في مواجهتهم للتمرد الشرير بل في تصريفهم للشؤون المدنية حيث أشرفوا على المفاوضات بين العشائر والمجموعات الإثنية العراقية، واضطلعوا بمهمة مساعدة المدارس والشركات ومجالس المدن في تحقيق الانطلاق والنهوض عن الأرض، إضافة إلى قيامهم بدور الوساطة بين ضحايا صدام حسين والمستفيدين من نظامه. ويقوم بعض المدنيين في سلطة الاحتلال أيضاً بمهمات بطولية، غير أن عددهم أقل بكثير من عدد أولئك المنتظمين في سلك القوات العسكرية النظامية.
على أن هذه الفيالق العسكرية ذات الخبرة سوف تتدفق الآن خارجة من العراق لتحلّ محلها مجموعات من الجنود المبتدئين الأغرار، حيث وضع الجيش الأميركي وقوات المارينز خطة التناوب بأقصى درجة ممكنة من الحذر والعناية. غير أن من المحتّم هنا أن العلاقات التي تكونت سوف تتمزق في وقت يتصف بأقصى درجات الحساسية مع سعي الولايات المتحدة إلى نقل السيادة السياسية إلى العراقيين مع احتفاظها بوجود عسكري في البلاد.
وتثور الأسئلة المزعجة التي تحيط بعملية نقل السيادة إلى العراقيين، والتي من المتوقع أن تطرحها جميع الأطراف: فهل من الممكن إجراء الانتخابات؟ وإذا لم يكن إجراؤها ممكناً، فكيف يمكن اختيار حكومة عراقية شرعية؟ وهل من الممكن التقيد بالموعد النهائي لنقل السيادة إلى العراقيين والمحدد في 30 يونيو المقبل؟ وما هو الدور الذي ستلعبه الأمم المتحدة؟ وهل تستطيع الولايات المتحدة أن تفاوض على اتفاق بشأن استمرار العمليات العسكرية التي تضطلع بها قواتها، ومن هو الطرف الذي ستتفاوض معه في هذا الشأن؟
غير أن كل تلك التساؤلات تتصف بأنها من ناحية ما تشكل واجهة تمثيلية تنوب عن سؤال واحد أساسي: هل يستطيع شيعة العراق والسنّة والأكراد والأقليات الأصغر أن يتعايشوا جميعاً كأمة واحدة بدلاً من الرفض الوحشي المتبادل؟ أم أن الأصحّ ما قاله أحد الضباط الأميركيين في رسالة إليكترونية: إنني لست متأكداً مما إذا كان العراقيون قادرين على تحقيق الانتقال إلى السيادة المستقلة دون بدء حرب بين جميع الأطراف....لا نستطيع (نحن الأميركيين) أن نجعلهم يحبون بعضهم بعضاً، غير أننا نحاول جاهدين أن نعلّمهم أن من الممكن لهم أن يعملوا متعاونين معاً وأن يتفقوا على الاختلاف والمغايرة. انتهى كلام الضابط الأميركي.
ويستشهد مسؤولو الإدارة الأميركية بعوامل ثلاثة فاعلة في مصلحة ذلك المسعى. أولاً، ستكون قوة الضغط الأميركي كبيرة وجديرة بالاعتبار، حتى بعد نقل السيادة إلى العراقيين، وذلك بفعل وجود 110 آلاف جندي أميركي ومبلغ 18 مليار دولار أميركي نقداً مرصودة وجاهزة لعملية إعادة بناء الأمم.
ثانياً، وعلى رغم أن نظام صدام حسين قد قمع الأكراد والشيعة بوحشية، فليس هناك تقليد متوارث في العراق يحمل أسس العنف الإثني. فالتزاوج بين مختلف الفئات والطوائف أمر شائع، إضافة إلى أن مختلف المجتمعات تحظى بممثلين لها في بغداد اليوم، مع اعتبار أن العنف في العاصمة العراقية ليس دائراً بين المجتمعات العراقية.
لكن الأهم من ذلك كله هو العامل الثالث، أي أن المسؤولين الأميركيين يفترضون الآن أن معظم الزعماء العراقيين يريدون العثور على سبيل للخروج إلى ساحة التعايش والمصالحة وإنجاح مشروع الدولة العراقية. وإذا وصل الأمر إلى حد تصرفهم خلافاً لذلك، فإن سلوكهم يكون نابعاً من الخوف ومن الإحساس المشترك بينهم جميعاً، وهو ذلك